[center][b][center]تفسير سورة الأعلى
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله -جل وعلا-: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى في هذه الآية أمر الله -جل وعلا- رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن ينزهه عن كل نقص وعيب، وعن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، وهذا كقول الله -جل وعلا-: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ .
وقد نزه الله -جل وعلا- نفسه فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ .
وقال -جل وعلا-: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وقال فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ .
ونزهته الملائكة الكرام، قالوا: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .
وقوله -جل وعلا- في هذه الآية: سَبِّحِ اسْمَ الاسم هذا أُدْخِلَ بين الفعل وكلمة ربك زيادة في تعظيم الله -جل وعلا- وطلبا لتعظيمه، ويدل على هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نزلت هذه الآية قال: اجعلوها في سجودكم .
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ولم يقل سبحان اسم ربي الأعلى؛ بل قال سبحان ربي الأعلى، فدل ذلك على أن المراد بقوله -جل وعلا- سبح اسم ربك الأعلى الذي هو تسبيح الله -جل وعلا.
وقوله -جل وعلا-: الْأَعْلَى هذا صفة الله -جل وعلا-، وهذا اسم مكن أسماء الله -جل وعلا- يتضمن إثبات العلو له -جل وعلا-، وعلو الله -جل وعلا- على خلقه علو بذاته -جل وعلا-، فهو -جل وعلا- في العلو كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ .
وقال -جل وعلا-: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ يعني: من في العلو؛ لأن السماء يُطْلَق على العلو.
وقال -جل وعلا- مبينا فوقيته على خلقه: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ .
وقال -جل وعلا-: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ .
وأخبر -جل وعلا- أن الأشياء تصعد إليه وتعرج، وذلك دليل على علوه، كما قال الله -جل وعلا-: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ يعني: أن الله يرفع العمل الصالح.
وقال -جل وعلا-: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ .
وأخبر -جل وعلا- أنه يُنَزِّل الأشياء على خلقه، والنزول لا يكون إلا من علو، كما قال الله -جل وعلا- (إنا أنزلناه).
الكمال المطلق في صفاته، وأفعاله -جل وعلا- كما قال الله -جل وعلا-: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ قال -جل وعلا- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقال -جل وعلا- قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وقال -جل وعلا-: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا فهو -جل وعلا- له علو الصفات، فلا عيب، ولا نقص يلحقه -جل وعلا- بل هو -جل وعلا- الأعلى في صفاته، وفي أفعاله، سبحانه وتعالى.
ثم قال -جل وعلا-: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي خلق الأشياء فسواها، وأحسن -جل وعلا- خِلقتها، وقد تقدم لنا ذلك، ثم قال -جل وعلا- وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى أي أن الله -جل وعلا- قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم هدى العباد بعد ذلك إلى أن يأتوا بما قدره -جل وعلا- عليهم، فمن كان من أهل السعادة، فإنه يعمل بعمل أهل السعادة، ويُهدى إلى طريقهم، ومن كان من أهل الشقاء، فإنه يعمل بعمل أهل الشقاء، ويُهدى إلى طريقهم.
والعباد في معايشهم، وأرزاقهم والحيوانات والنباتات والجمادات كلها، بل كل خلق الله -جل وعلا- قدر الله -جل وعلا- عليهم ما هم عاملون، ثم يوقعونه كما أراد الله -جل وعلا- وقضى به في سابق علمه؛ ولهذا قال موسى لفرعون: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى فالطيور تهتدي في الصباح تغدو خماصا، وتروح بطانا والدواب ترحم أولادها، والطفل الصغير إذا خرج من بطن أمه التقم ثديها، وهذه الدواب ترعى وتأكل، ثم تنمو وتمشي، وتذهب وتروح، وهذه كل مخلوقات الله -جل وعلا- في سيرها قد هداها الله -جل وعلا- لما سبق به علمه، سبحانه وتعالى.
ثم قال -جل وعلا- وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى يعني: أن الله -جل وعلا- هو الذي أخرج المرعى، وهي النباتات التي تنبت من نزول المطر من السماء، وترعاها الدواب، فالله -جل وعلا- هو الذي أخرج ذلك فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى الغثاء: هو ما يكون على ظهر السيل مما يحمله الماء، والأحوى: هو الأسود الذي يميل إلى خضرة، ومعنى ذلك أن الله -جل وعلا- بعد أن يخضر هذا الزرع، يعود يابسا هشيما قد اسود؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- ذكره مثلا للحياة الدنيا، وهذا المثل ضربه الله -جل وعلا- في آيات كثيرة، كما قال الله -جل وعلا-: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا قال -جل وعلا-: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وقال -جل وعلا- اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا .
ثم قال -جل وعلا- سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى .
أخبر الله -جل وعلا- في هذه الآية نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه سيقرئه القرآن، ويجعله محفوظا عنده، إلا ما شاء الله -جل وعلا- أن ينسيه نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فإنه ينساه، وهذا لا يعارض قول الله -جل وعلا- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ كما لا يعارض قوله -جل وعلا- إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ وإنما لم يعارض هذا؛ لأن ما ينساه النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون الله -جل وعلا- قد أراد نسخه، والله -جل وعلا- له الحكمة في ذلك، فينسيه نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليكون أمرا منسوخا.
ويبدله الله -جل وعلا- بمثله، أو خير منه، كما قال -تعالى-: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا .
وإما أن ينسه الله -جل وعلا- نبيه -صلى الله عليه وسلم- شيئا من هذا القرآن، فيذكر به، وييسر الله -جل وعلا- أسباب ذلك، كما ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلا يقرأ آية، فقال: رحم الله أخي، كنت قد أنسيتها وهذا الحديث، حديث في الصحيحين، وفي معناه كلام للعلماء، ولكن إذا أخذ بظاهره كما هو ظاهر الآية، فإن الله -جل وعلا- ييسر لنبيه -صلى الله عليه وسلم- سببا إذا أراد الله -جل وعلا- بقاء هذا القرآن وحفظه من النسخ وأما إذا أراد ن ينسخه، فإنه -سبحانه وتعالى- ينسيه نبيه -صلى الله عليه وسلم- وله -جل وعلا- في ذلك الحكمة البالغة، فلا يعارض ذلك قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ كما حفظه الله -جل وعلا- أو هذا الذكر الذي أراده الله -جل وعلا- ذكرا يبقى إلى يوم الدين، حفظه الله -جل وعلا- فلم ينسخ ولم ينسَ.
ثم قال - جل وعلا-: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى أي: إن الله -جل وعلا- يعلم ما يخفيه العباد، وما يظهرونه، وما يخرج على وجه الأرض، وما يكون في باطنها وما هو في السماء، وما هو في هذا الكون كله: الخافي منه والظاهر، فإن الله -جل وعلا- يعلمه.
ثم قال -جل وعلا-: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى أي: إن الله -جل وعلا- ييسر نبيه -صلى الله عليه وسلم- لليسرى، وهي هذه الملة الحنيفية السمحة التي ليس فيها إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا جفاء، بل هي شريعة سمحة مناسبة للعباد في معايشهم ومعادهم، ليس فيها آصار ولا أغلال، بل هي طريقة سهلة ميسرة، قد رفع الله -جل وعلا- فيها الحرج والآصار والأغلال، وهي ميسورة للعباد في فعلها كما أن هذه الطريقة، أو هذه التي يسر الله -جل وعلا- له نبيه -صلى الله عليه وسلم- تيسر العباد إلى الدخول في جنات النعيم، وتسهل عليهم طريق ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى أمر الله -جل وعلا- نبيه أن يذكر العباد، ثم قال: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى قال بعض العلماء: إن هذه الآية فيها محذوف، وتقديره: فذكر إن نفعت الذكرى، أو لم تنفع؛ لأن الله -جل وعلا- أرسل نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليبلغ العالمين جميعا.